في حياة الإنسان، يتجاذبه مستويان من الاهتمام: المعاش اليومي بما يحمله من تفاصيل صغيرة متكررة، والمصير الفكري والروحي بما يطرحه من أسئلة كبرى عن الحقيقة والغاية والوجود. ولعل الخطأ الأكثر شيوعًا في المجتمعات هو الخلط بين هذين المستويين، حيث يتجاوز صوت العامة حدوده في مسائل العلم والعقيدة، بينما الأصل أن يُترك المجال فيها إلى الصفوة من أولي الألباب، كما أشار الدكتور المصري: مصطفى محمود إلى ذلك في كثير من أطروحاته الفلسفية.
أولًا: صوت العامة في شؤون المعاش
من الطبيعي أن تُستشار الكثرة الغالبة من الناس في قضايا حياتهم اليومية: الأسعار، فرص العمل، أحوال الأسواق، طبيعة الخدمات. فهنا يكون الإنسان الخبير بواقعه المباشر، يلمس الحاجة بيديه ويعيشها في تفاصيله. الرأي العام في هذا السياق ليس مجرد صوت، بل خبرة تراكمية جماعية، تتشكل من آلاف التجارب الفردية التي تصب في اتجاه واحد. ولهذا نرى أن الحكومات والأنظمة السياسية كثيرًا ما تلجأ إلى استطلاع آراء الناس أو مراقبة أحوالهم المعيشية، لأن هذه الأمور تُقاس بالعدد والكثرة والتجربة المباشرة.
ثانيًا: حين تختلط الأصوات في مسائل المصير
لكن الإشكالية تبدأ حين ينتقل هذا “المنطق الجماهيري” إلى ساحات أخرى لا يصلح فيها: ساحات العلم والفكر والعقيدة. فهذه الميادين لا تُقاس بالكثرة ولا بالعدد، ولا يُحتكم فيها إلى صوت العامة، لأنها تتطلب أدوات خاصة من المنهج، والبرهان، والتأمل العقلي، والخبرة العلمية الطويلة. إن سؤال الحقيقة الوجودية أو تحديد مسار أمة معرفيًا لا يمكن أن يُترك لأهواء الجماهير، وإلا تحوّل الأمر إلى فوضى من الآراء المتناقضة التي تحكمها الأهواء، ولا يربطها معيار علمي أو مقياس عقلي.
ثالثًا: دور الصفوة وأولو الألباب
في المقابل، يبرز دور الصفوة من أهل الفكر والعلم؛ هؤلاء الذين سماهم القرآن “أولو الألباب“، أي أصحاب العقول المتفتحة والقلوب الواعية. هم الذين يجمعون بين المعرفة العميقة والتجربة الواسعة والرؤية البصيرة. مخزونهم العلمي، وتأملاتهم الفلسفية وهبت لهم عقولا ترى الأمور من زوايا متعددة، لديهم جهاز يتلقى الأحداث بأسلوب مختلف تماما عن عامة الناس، يرون الأمور وهي مقبلة، بينما العامة يرونها وهي مدبرة، يستحضرون التاريخ ليفهموا الحاضر، ويستندون إلى الدليل ليضيئوا الطريق. هؤلاء وحدهم الجديرون بأن يُستشاروا في القضايا المصيرية التي تتعلق بالعقيدة أو التوجهات الفكرية الكبرى للمجتمع، أو الأمور المصيرية التي تُحدد مستقبل الأمة والمجتمعات.
فكما لا يُسأل جمع الناس عن دواء المريض، بل يُرجع إلى الطبيب، كذلك لا يُسأل الناس كافة عن مسألة عقدية أو فلسفية، بل يُرجع فيها إلى المتخصص العالم العارف؛ هؤلاء الذين سماهم القرآن: (أهل الذكر). إن الرجوع إلى الصفوة ليس انتقاصًا من العامة، بل هو حفظ لنظام الحياة: لكل مجال أهله، ولكل قضية ميزانها، ومن الحكمة وضع كل إنسان في موضعه الذي يُصلح فيه ولا يُفسد، فقيادة الطائرة لا يصلح لها عامة الناس ليس تقليلا من شأنهم، وإنما يوكل الأمر إلى المختصين للوصول بالناس إلى بر الأمان.
رابعًا: الفارق بين التجربة والبرهان
يمتلك العامة التجربة الحية المباشرة، لكنهم غالبًا يفتقدون أدوات البرهان، والتجربة وحدها لا تكفي لإقامة حقيقة فكرية أو دينية. قد يرى الناس ظواهر معينة، لكن تفسيرها يحتاج إلى عقل ناقد يملك أدوات تحليلية ومنهجية علمية. هنا تتجلى قيمة الصفوة: تحويل الظواهر إلى معرفة، والتجارب إلى قوانين، والمعطيات إلى نظريات؛ نيوتن مثلا كان يمتلك عقلا جعله يستخلص قانون الجاذبية بمجرد سقوط تفاحة، بينما العامة تتساقط عليهم جميع الثمار طوال العام، لكن ليس لديهم من الأدوات العقلية ما يصلون به إلى نظرية أو قانون.
إن الفارق بين صوت العامة وصوت الصفوة يشبه الفارق بين المادة الخام والصنعة المتقنة: الأولى موجودة في الطبيعة، متاحة للجميع، لكنها لا تتحول إلى قيمة إلا بيد الصانع الخبير الحاذق.
خامسًا: الديمقراطية وحدودها
من هنا نفهم أن الديمقراطية – بما تعنيه من إشراك الجماهير في تقرير مصيرهم السياسي – لا تمتد بالضرورة إلى قضايا الفكر والعلم. فالمجال السياسي قائم على التمثيل والتوازن بين المصالح، أما مجال الحقيقة والمعرفة فلا يخضع للتصويت، بل يخضع للبرهان. لا يمكن أن نقرر بالتصويت أن مجموع زوايا المثلث أكثر أو أقل من 180 درجة، ولا أن نحدد حقيقة الروح أو سرّ الوجود عبر استطلاع للرأي. هذه ميادين لا تُدار بالأغلبية، بل بالعلم والمعرفة.
سادسًا: حكمة التمييز بين المجالين
إن هذا التمييز بين المجال المعيشي والمجال المصيري يحمل حكمة عميقة. فهو يضمن مشاركة الناس في ما يخص حياتهم اليومية، ويحفظ في الوقت نفسه نقاء الحقيقة من التلوث بالفوضى الجماهيرية. فإذا تداخل المجالان ضاعت الموازين: يصير الرأي العام معيارًا للحقيقة، وتتحول الكثرة إلى سلطة معرفية، وهو أمر لا سند له في العقل ولا في التجربة الإنسانية.
سابعًا: العودة إلى القرآن والفطرة
القرآن الكريم حسم هذه المسألة حين قال:
]فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ“ [النحل: 43.
فالناس جميعًا مدعوون إلى السؤال، لكن ليس إلى إصدار الحكم. الحكم عند أهل الذكر، أي أهل الاختصاص. هذه هي الفطرة العقلية التي استقرت عليها الإنسانية: في الطب نرجع إلى الأطباء، في الهندسة إلى المهندسين، وفي الدين والفكر إلى العلماء والفلاسفة.
ثامنًا: إشكالية العصر الحديث
غير أن عصرنا الحديث يعاني من انقلاب في هذه القاعدة، حيث صارت وسائل التواصل الاجتماعي منابر للرأي في كل شيء: من الطب إلى العقيدة إلى الفلسفة، وهكذا تضخم صوت العامة حتى طغى على صوت الصفوة، وأصبح الناس يبحثون عن الفتاوى في منصات عابرة بدل الرجوع إلى العلماء، وعن الفلسفة في مقاطع قصيرة بدل الكتب، وعن الحقيقة في الشائعات بدل البرهان. إنها صورة من صور الخلط بين المعاش والمصير، بين ما يملكه العامة وما يُفترض أن يبتّ فيه أهل العلم.
تاسعًا: مسؤولية الصفوة
هنا تبرز مسؤولية الصفوة نفسها، فليس دورهم أن ينغلقوا في أبراج عالية بعيدة عن الناس، وإنما أن يقدموا معارفهم بلغة بسيطة مفهومة، وأن يوازنوا بين العمق والوضوح. إذا كان للعامة الحق في السؤال والبحث عن الهداية، فإن على الصفوة واجب البيان والتبسيط والإرشاد، وإلا تركوا فراغًا يملؤه الجهل والسطحية والادعاء.
عاشرًا: الخاتمة – التوازن العادل
إن الحكمة تكمن في تحقيق التوازن: أن يُستشار الناس في شؤون معاشهم لأنها تخصهم مباشرة، وأن يُرجع في مسائل المصير إلى الصفوة لأنها تحتاج إلى عقل وبصيرة وعلم. هكذا تستقيم الحياة: العامة يساهمون في بناء الواقع بخبراتهم، والصفوة يقودون المسار الفكري والروحي بالبصيرة والبرهان. وما أحوجنا اليوم إلى إعادة الاعتبار لأولي الألباب، حتى لا يضيع المصير وسط ضجيج الأصوات، ولا تختلط حقيقة العلم والفكر بأهواء اللحظة العابرة. فالعقل أمانة، والحقيقة ميراث مشترك، لكنها لا تُصان إلا إذا عرف كلٌ مجاله، واحتُكم في المصير إلى الصفوة، وفي المعاش إلى مجموع الناس.
د. أحمد سليمان