المقدمة
يُعدّ التراث الإسلامي من أوسع التراثات الإنسانية تدوينًا، إذ سجّل المسلمون عبر القرون سير العلماء والأئمة، وأخبار الخلفاء والسلاطين، ومواقف الزهاد والمتكلمين، فضلاً عن كتب الفقه والحديث والتفسير، لكنّ هذا التدوين لم يخلُ من التحيزات المذهبية والفكرية، حيث عمدت كل مدرسة إلى إبراز رموزها في صورة مثالية، مقابل تصوير خصومها في صورة سلبية، هذا التحيز ليس خاصًا بالتراث الإسلامي وحده، بل هو سمة ملازمة لكل عملية تدوين تاريخي وفكري؛ غير أنّ خصوصية التراث الإسلامي تكمن في غزارة مصادره، وثراء جدالاته، وتشابك سياقاته السياسية والاجتماعية. لذلك يصبح من الضروري التعامل مع هذا التراث بحذر نقدي، للتمييز بين الحدث التاريخي نفسه وبين التفسير الذي أضفاه المؤرخ أو الفقيه
أولًا: طبيعة التحيز في التراث الإسلامي
يمكن تعريف التحيز بأنه الميل غير الموضوعي لتأييد رأي أو مذهب أو شخصية على حساب أخرى، سواء بالمدح المفرط أو بالذم الجائر في الكتابة التراثية، تتجلّى أنماط التحيز في
التضخيم والمبالغة: رفع من شأن العالم أو الإمام حتى يصبح أقرب إلى العصمة –
الانتقاء والتجاهل: ذكر ما يخدم الموقف المذهبي وإغفال ما يضعفه –
إعادة التأويل: تفسير الحدث الواحد بوجهين متناقضين، بحسب الموقع الفكري للراوي –
التحقير والتشويه: تصوير الخصوم في صورة الجهال أو المارقين أو المنحرفين –
هذه الأنماط ليست مجرد ممارسات فردية، بل كانت جزءًا من آليات الجدل المذهبي الذي ساد بين المدارس الفقهية والكلامية
ثانيًا: أمثلة تطبيقية على التحيز
أبو ذر الغفاري .
قصة وفاة الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري وحيدًا في الربذة مثال صارخ على التباين في التفسير
المؤيدون: يرون في ذلك كرامة وصبرًا وزهدًا في الدنيا
المعارضون: قد يعتبرون موته وحيدًا نتيجة عزلة واختلاف مع الجماعة
الإمام أحمد بن حنبل .
في محنة خلق القرآن، سُجن الإمام أحمد وضُرب
الحنابلة وأنصاره: اعتبروا ذلك دليلًا على ثباته وصموده في نصرة السنة
خصومه: رأوا فيه عنادًا ومنهم عمه الذي كان يطلب منه التنازل، ومنهم من رأى مخالفته لإجماع العلماء الذين قبلوا رأي الدولة
الإمام الشافعي .
مناظرات الشافعي مع خصومه الفقهاء والكلاميين
أتباعه: اعتبروها قمة في الحكمة وقوة الحجة
المخالفون: صوّروها كجدال لا طائل منه أو خروج على الوقار
عثمان بن عفان .
غنى عثمان وسخاؤه
أنصاره: فسّروه ككرم وسعة رزق مباركة
منتقدوه: اعتبروه ميلًا إلى الأقارب وإسرافًا في العطاء
علي بن أبي طالب .
شجاعة علي بن أبي طالب في القتال
أتباعه: أبرزوا بطولاته كرمز للإيمان والشجاعة
خصومه: أولوها اندفاعًا ومغامرة غير محسوبة
“ابن عساكر ومقولة “لحوم العلماء مسمومة .
قال ابن عساكر عبارته المشهورة: “اعلم يا أخي أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار “منتقصيهم معلومة
هذه المقولة أصبحت شعارًا ضد انتقاد العلماء، لكنها لم تُطبّق عمليًا من جميع العلماء أنفسهم؛ إذ نرى علماء كبارًا كالذهبي، وابن تيمية، والرازي، وابن الجوزي، لم يترددوا في نقد بعضهم بألفاظ قاسية، وهنا يظهر الانتقائية: إذا كان النقد موجهًا لعالم محبوب، قيل: هذه غيبة محرمة، وإذا كان النقد لخصم، قيل: إنه “فضح للباطل” و”ذب عن العقيدة”، وهذا الذي نراه في العصر الحديث من أتباع العلماء وطلابهم ومريديهم. لا يقبلون الكلام عن شيوخهم بحجة أن لحوم العلماء مسمومة، في حين أنهم يطعنون في علماء آخرين بحجة أن الغيبة مباحة في ستة مواطن، ويستدلون بكلام محمد ابن عوجان المالكي:
القدح ليس بغيبة في ستة متظلم ومعرف ومحذر
ومجاهر فسقا ببدعة ومستفت ومن طلب الإعانة في إزالة منكر
فلحوم بعض العلماء مسمومة، ولحوم الآخرين هنيئة مريئة
ثالثًا: تحليل ودلالات
هذه الأمثلة تكشف عن حقيقة مهمة: الخلاف لم يكن غالبًا على وقوع الحدث، بل على تفسيره، فالحدث ثابت نسبيًا، لكن القراءة تختلف تبعًا للانتماء المذهبي أو المصلحة الفكرية
موت أبي ذر وحيدًا: عزلة أم كرامة؟
سجن الإمام أحمد: عناد أم ثبات؟
ثراء عثمان: إسراف أم سخاء؟
شجاعة علي: بطولة أم تهور؟
هذا يثبت أن التراث الإسلامي – مع غناه – ليس سجلًا محايدًا، بل مرآة لصراعات فكرية ومذهبية، حيث يتم إعادة صياغة التاريخ وفق الهوية الفكرية
رابعًا: أثر التحيز على قراءة التاريخ الإسلامي
تضخم بعض الشخصيات: حتى غدت أيقونات مذهبية معصومة غير قابلة لأي نقد
تهميش آخرين: رغم مكانتهم العلمية، إلا أنه لا يُلتفت إليهم، مثل الليث بن سعد مثلا إذا قورن بمالك بن أنس، رغم أنه أفقه من مالك كما ذكر ذلك الشافعي
صناعة صورة مزدوجة: نفس الشخص يُعرض بطوليًا عند فريق، ومذمومًا عند آخر
تغذية النزاعات اللاحقة: إذ أصبحت الروايات التراثية وقودًا للخلافات المتجدد
خامسًا: منهج مقترح للتعامل مع التحيز
لمواجهة هذه الإشكالية، يقترح الباحث اتباع الخطوات الآتية
التمييز بين الحدث والتفسير: الحدث يُقبل أو يُرفض بالتحقيق التاريخي، أما التفسير فيخضع للتحليل النقدي
المقارنة بين المصادر: قراءة أكثر من مدرسة فكرية لتفادي الانحياز الواحد
تحليل السياق السياسي والاجتماعي: فالكتابة التراثية كثيرًا ما كانت أداة للصراع الفكري والسياسي
إعمال المنهج النقدي الحديث: الاستفادة من أدوات التاريخ والفكر المقارن لفهم النصوص
الوعي بالبعد الإنساني: فالتحيز ليس فسادًا مطلقًا، بل انعكاس لحدود البشر وظروفهم
الخاتمة
إن التحيز في تفسير المواقف التاريخية في التراث الإسلامي حقيقة لا يمكن إنكارها، لكنه لا يعني أن هذا التراث باطل أو بلا قيمة على العكس، هو تراث زاخر وغني، لكنه يحتاج إلى قراءة نقدية واعية تميز بين الرواية والتأويل، وبين الحقيقة والتفسير، وبين الحدث والجدل.
التراث الإسلامي ليس نصًا جامدًا، بل هو مرآة لصراعات العقول والقلوب، ومصدر لفهم طبيعة الفكر الإنساني في لحظاته التاريخية، والباحث المنصف هو من يستطيع أن يقرأ هذا التراث في سياقه، مستفيدًا من غناه، دون أن يقع أسيرًا لتحيزاته.